بقلم الدكتور/ عمر محمد الشريف
منذ سنوات فتنت بجمال سانت بطرسبرغ، أقنعت نفسي أن علي أن أكمل دراستي بإحدى مدن روسيا الاتحادية، أظن أني أردت أن أقترب من مفاتنها، عزمت على شد الرحال، لكن لم يشأ القدير وقتها أن تطأها قدمي، ربما تطأها يوماً ما لسبب ما، وربما لن تطأها أبدًا.
سانت بطرسبرغ، فينيسيا الشمال، مدينة الثقافة والفن، البوابة الأوروبية لروسيا، وعاصمتها الثقافية، يفوح منها عبق التاريخ، يقطعها نهر نيفا حتى يصب في خليج فنلندا.
على ضفافه بنى القيصر بطرس الأكبر أو بيوتر ألكسييفيتش رومانوف، قيصر روسيا الخامس، كوخًا من الخشب، بعد أن قرر أن يبني عاصمة جديدة تحل محل موسكو، رأى بطرس أن بعد موسكو عن بقية أنحاء أوروبا، وعدم إتصالها ببلدان الغرب يضر بإمبراطوريته.
كانت العاصمة الجديدة هي سانت بطرسبرغ أو مدينة القديس بطرس، وكانت تعرف سابقاً بإسم لينينغراد، وبإسم بيتروغراد، عمل في بنائها ٤٠ ألف عامل لمدة أعوام متتالية، تابع القيصر بناء عاصمته الجديدة من كوخه الخشبي، ثم أبدله بمنزل فخيم على ضفة النهر.
يحكى أن القيصر كان يراقب سير العمال، وكلما عسر عليهم أمر فعله بيده، وذات مرة جاءه عامل يشكو من ألم في ضرسه ويرجوه الإذن بالذهاب إلى الطبيب، فقام القيصر واقتلع ذلك الضرس بيده حتى لا يغيب الرجل عن عمله.
شرع القصير في بناء المدينة في سنة ١٧٠٣ م، وبنى بها قلعة تعرف بقلعة بطرس وبولس، وهي المكان الذي تأسست فيه سانت بطرسبرغ. يقال أنه اختار مكانها بعد أن رأي نسراً يحلق في السماء، فأعتبر ذلك فأل خير، ليأمر ببناء القلعة في تلك البقعة، عاد الطائر محلقاً يوم إنشاء القلعة.
منذ عام ١٧١٢م صارت سانت بطرسبرغ عاصمة للإمبراطورية الروسية، وظلت هي العاصمة لمدة قرنين من الزمان، كان هدف القيصر آنذاك جعل روسيا دولة أوروبية سياسيًا وثقافيًا، وأرسل الطلبة الروس إلى الجامعات الأوروبية للدراسة، وهي حاليًا أكبر مركز علمي في روسيا.
من المفارقات أن تم إعلان بدء الثورة الروسية عام ١٩١٧م من سانت بطرسبرغ عاصمة الإمبراطورية الروسية، والتي من نتائجها أن قضت الثورة على الإمبراطورية الروسية تمامًا. مع تأسيس الإتحاد السوفيتي، نقل الشيوعيون عاصمتهم نحو موسكو .
في الحرب العالمية الثانية، حوصرت سانت بطرسبرغ من قبل القوات الألمانية، أثناء ما عرف ب"عملية بارباروسا"، كانت سانت بطرسبرغ التي تعرف وقتها ب"لينينغراد"، هدفاً من ثلاثة أهداف إستراتيجية لعملية بارباروسا الألمانية، وكانت بمثابة القاعدة الرئيسية لأسطول بحر البلطيق الروسي.
لم تكن الأهمية الاستراتيجية للمدينة فقط هي حافز الفوهرر (بالألمانية تعني القائد) هتلر لمحوها من خريطة العالم، بل سعى هتلر لتدمير مدينة لينينغراد لرمزيتها، فالاسم الذي كانت تحمله "لينينغراد" هو نسبة للقائد السوفيتي فلاديمير لينين قائد الثورة الشيوعية الروسية، ومؤسس الإتحاد السوفيتي.
قرر الفوهرر محو مدينة لينينغراد من على وجه الأرض، أراد إخضاعها من خلال القصف المدفعي والجوي، حوصرت لينينغراد، وقطعت عنها كافة خطوط ووسائل الإمداد، قامت الطائرات الألمانية بعدة غارات على المدينة يومياً، وأصدر هتلر أوامره بعدم قبول اللاجئين من لينينغراد. تم استخدام الجوع كوسيلة للحرب.
كان يعتقد أن المدينة سوف تستسلم بسرعة، بسبب عدم امتلاكها للموارد اللازمة لإعالة ملايين من السكان، قدر عددهم حوالي ٣ مليون مدني، بينهم حوالي ٤٠٠ ألف طفل.
صمد المدنيون والجيش السوفييتي المحاصر بداخلها أمام الجوع والعطش والبرد والقصف، كانت المدينة بأكملها تتضور جوعاً حتى الموت، لم يكن الجوع فقط هو العائق الوحيد للبقاء على قيد الحياة، مع بداية الطقس البارد بدأ الناس يموتون في الشوارع بسبب الصقيع الشديد. للتدفئة أحرقوا كل ما في وسعهم: أثاث، وكتب، وأي شيءٍ غير ضروري.
عائلات بكاملها أختفت من دورة الحياة، الجثث تراكمت دون أن تجد من يدفنها، وكانت الفئران تقضم أطراف المجمدين، وهم ينازعون سكرات الموت؛ وقد أكل أشباه الأحياء الكلاب والقطط والفئران، أكل الناس كل ما يمكن أكله، أكلوا الورق ونشارة الخشب ولحسوا الغراء.
كانت بحيرة لادوغا الطريق المائي الوحيد الذي استطاع الروس من خلاله إيصال إمدادات من الاغذية والوقود، وأطلقوا عليه "طريق الحياة".
لم يَكسر الحصار لينينغراد، ولم يُكسر إلا حين وصلت تعزيزات الجيوش السوفييتية، ونتيجة لعملية أطلق عليها اسم "إيسكرا" شنها الجيش الأحمر السوفيتي في لينينغراد وفولخوف. واضطرت القوات الألمانية إلى الانسحاب. فك الحصار كان نقطة تحول في مسار الحرب العالمية لصالح الحلفاء، وبداية النهاية لجيوش دول المحور الموالية لهتلر .
استمر الحصار من ٩ سبتمبر ١٩٤١م، وحتى ٢٧ يناير ١٩٤٤م، أي حوالي ٩٠٠ يومًا تقريباً من الحصار ، لم تتمكن القوات الألمانية من دخول المدينة قط.
كان هذا الحصار من أعنف وأقسى الحصارات الحربية، يقال أن وصل عدد القتلى في المدينة أكثر من مليون شخص، فقط ٣٪ منهم ماتوا من القصف، والباقي ماتوا من الجوع والبرد. دفن حوالي نصف مليون منهم في مقبرة واحدة، وهي مقبرة بيسكاريوفسكوي التذكارية بسانت بطرسبرغ.
بعد انتهاء الحرب العالمية أعيد بناء ما دمر من مبان وجسور، ورممت الآثار، والقصور الإمبراطورية التي تعرف بها المدينة، وتمت إعادتها إلى حالة أجمل مما كانت عليه.
ما زالت سانت بطرسبرغ تجذب ملايين السياح كل عام، وتأسرهم بجمال قصورها الباروكية الفخمة، وقبابها المزركشة والمذهبة. فماذا تحمل الأيام القادمة لفينيسيا الشمال بعد اجتياح روسيا لجارتها أوكرانيا ؟!. |
