الجمعة, 29 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

عبد الله النديم ، خطيب الثورة العرابية

عبد الله النديم ، خطيب الثورة العرابية
عدد : 08-2021
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”


عبد الله بن مصباح بن إبراهيم نديم الإدريسى الحسني والمعروف بإسم عبد الله النديم من أدباء مصر وشعرائها وزجاليها وثائريها وكتابها المتعددى المواهب وكان أيضا خطيبا فذا من أعظم مَن عرفت مصر من الخطباء وصحفيا لامعا يتخطف الناس صحفه فور صدورها ومجاهدا لا مثيل له وكان الإسلام هو شغله الشاغل وقضيته الكبرى ومشروعه الفكري الذي عاش من أجله كاتبا وخطيبا ومجاهدا وكان تلميذًا نجيبا لجمال الدين الأفغاني في منهجهِ الإصلاحي ونزعته المقاوِمة وترك بصمةً واضحة على جيل بأكمله على رأسهم الزعيم مصطفى كامل باشا وفضلا عن ذلك فقد كان خطيب الثورة العرابية وأحد أبطالها ولذا فقد حظى بالحب الجارف والمكانة الكبيرة لاسيما بين العلماء والمفكرين والمصلحين والمجاهدين ولم يكن ذلك بضربة حظ ولا بالصدفة بل كان أهلا لهذه المكانة وجديرا بها وكان مولده علي الأرجح في عام 1843م قرب أواخر عهد محمد علي باشا بقرية الطيبة بمحافظة الشرقية ويتصل نسبه للإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهما ونشأ وتربي بمدينة الإسكندرية فى أسرة متوسطة الحال بعد أن إستقر والده في سوق المنشية وإفتتح به مخبزا وقد لمح أبوه عليه علامات النبوغ والتفوق فألحقه بالكتاب ليتعلم القرآن الكريم ويحفظه ويلم بمبادئ القراءة والكتابة والحساب تمهيدا لإلحاقه بالأزهر الشريف وبالفعل نبغ عبد الله وأتم حفظ القرآن الكريم ثم إنكب على كتب التراث وعلم السلف ينهل منها لكنه لم يلتحق بالأزهر ربما لضيق ذات اليد وربما لرغبته في العمل ومساعدة والده وفضلا عن ذلك فقد إهتم بفنون الأدب ونبغ فيها وبرع فى الكتابة والشعر والزجل وتميز فى المناظرات المرتجلة وإشتهر بروحه الساخرة وكان في بداية حياته قد تعلم فن التلغراف وكان قد دخل مصر حديثا وإشتغل فى مكتب بنها للتلغراف ثم إنتقل إلى القاهرة عام 1871م ليعمل في مكتب القصر العالى حيث تسكن الوالدة باشا أم الخديوى إسماعيل وكان ذلك بداية لإختلاطه بأعلام الأدب والفن والثقافة فى ذلك العصر فأخذت شهرته تذيع بينهم إلا أن إقامته لم تطل بالقاهرة فقد إصطدم بخليل أغا الرجل القوى صاحب النفوذ بالقصر العالي فأمر بفصله من عمله فرحل إلى محافظة الدقهلية وأقام بعاصمتها المنصورة حيث إفتتح متجرا هناك وخلال إقامته هناك التى لم تستمر طويلا كان مجلسه مقصدا لرجال الأدب وطلاب العلم وبعد تجواله فى عدة مدن وقرى بالدلتا عاد إلى الإسكندرية ليستقر بها وكان ذلك عام 1876م فى فترة صعود الحركة الوطنية وفى عام 1879م شارك فى تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية وأصبح مديرا لمدرستها كما تولى تدريس الإنشاء وعلوم الأدب والخطابة بها وأنشأ فريقا للمسرح بالمدرسة وفى الإسكندرية بشر بمبادئ حزبه الجديد الذى أسسه حزب الإصلاح كما شارك فى تحرير جريدتى مصر والتجارة اللتان أسسهما اللبنانيان سليم نقاش وأديب إسحاق عام 1877 م وعام 1878م علي التوالي .

وإتصل النديم أيضا بجمال الدين الأفغانى الذى كان قد وصل إلي مصر في عهد الخديوى إسماعيل في أوائل السبعينيات من القرن التاسع عشر الميلادى والذى يعد أحد أعلام التجديد في عصر النهضة العربية والإسلامية الحديثة وحضر مجلسه فإستهوته أفكاره الجريئة لذلك تردد على حلقته وإنخرط فى سلك تلاميذه وتعلم منه حرية البحث والنقد والجرأة فى الدفاع عن الحق فتشبع بمبادئ الوطنية ولما لاحظ الأفغانى فيه نبوغه وقوة حجته فى المناظرة وسرعة بديهته ووضوح دليله إن كتب أو خطب أخذ يدربه وأعطاه من وقته وإهتمامه الكثير وتنبأ له بأنه سيكون الرجل المؤثر فى عواطف الجماهير وذات مرة وقف النديم خطيبا بأحد ميادين القاهرة فإجتمع حوله الآلاف وخطب فيهم خطبة بليغة ومؤثرة حيث كان لها تأثير كبير في نفوس الجماهير حينما قامت الثورة العرابية فيما بعد حيث قامت الجماهير بتأييدها ومناصرتها وكان مما قاله في هذه الخطبة إن علينا أن نعترف أنَ ما وصل إليه حالنا نتيجة طبيعية ومنطقية لأنه لا يمكن لأمةٍ مغلوبة أو مقهورة أن تحتل مكانا لائقا على الخريطة فبالإيمان والعلم معا قامت حضارتنا وركع وسجد أمام نورها العالم كله وبالتخلي عنهما تراجعت حضارتنا على هذا النحو المأساوي إن أُمتنا هي أمة العلم بل هي الأمة التي علمت العالم أجمع وكشفت عنه حجب الظلمات وليس من قبيل المصادفة أن تكون أول آية تتنزل من الوحي الكريم إقرأ بإسم ربك الذي خلق ولم يكتف النديم بالنضال الخطابي والصحفي فقط ففى عام 1879م أقام النديم فى الإسكندرية محفلا للخطابة راح يستغله فى نشر دعوته الإصلاحية وأفكاره التحريضية ضد الظلم وظهرت حينذاك موهبته الفذة فى الخطابة والكتابة والتى إكتسبها من خروجه إلى الشارع أو إلى الحياة الواقعية فكان هذا الأمر بمثابة الجامعة التى تعلم منها كثيرا وشاهد فيها كثيرا وإغترف منها ما يشبع مزاجه وهوايته فى الأدب فأحاط بالحياة الشعبية وسمع الأمثال والحكايات من شعراء الربابة ونوادر الظرفاء كما إرتاد المنتديات والمقاهى والمجالس الأدبية التى كانت تعقد فى بيوت الأثرياء وفى حوانيت التجار المحبين للأدب .

وفي الإسكتدرية أيضا إتصل النديم بعناصر من جمعية مصر الفتاة التى كانت تطرح مشروعا للإصلاح الوطنى وهذه الجمعية تم تأسيسها في عام 1879م حيث كانت البلاد تموج حينذاك بتيارات الإصلاح والتجديد وكان الشعور الوطنى فى تصاعد مستمر حيث سعى الوطنيون المصريون إلى إنقاذ البلاد من عبء الديون الخارجية التى كانت قد أوشكت أن تهدر إستقلال مصر ومن ثم أصدرت مجموعة من قادة الرأى ورجال السياسة والعسكريين الوثيقة المعروفة بإسم اللائحة الوطنية في يوم 2 أبريل عام 1879م ووقع عليها 327 شخصية من بينهم ستون من أعضاء مجلس شورى النواب وشيخ الإسلام وبطريرك الأقباط الأرثوذكس وحاخام اليهود المصريون وعدد من العلماء ورجال الدين وأكثر من أربعين من التجار وكبار الملاك وبعض الموظفين الحكوميين وقرابة تسعين من العسكريين وركزت اللائحة على مطلبين أساسيين مشروع وطنى لحل أزمة الدين الخارجى يضع حدا للتدخل الأجنبى فى إدارة شئون البلاد ونظام نيابى دستورى يأتى بحكومة مسئولة أمام البرلمان وقد قبل الخديوى إسماعيل العريضة وسعى لتنفيذها وكلف محمد شريف باشا برئاسة الحكومة وإعداد الدستور وتنفيذ ما ورد فى اللائحة الأمر الذى أدى إلى الإطاحة به من مقعد الخديوية بإتفاق أوروبى عثمانى ليحل محله إبنه توفيق ولم يستطع شريف باشا الإستمرار مع التوجهات الجديدة للخديوى الشاب الذى خضع لمخططات القوى الأوروبية وقد دفع الوضع المتأزم المعارضين الوطنيين إلى تشكيل تجمعات معارضة لسياسة الخديوى وللتدخل الأجنبى فتشكلت التجمعات السياسية مثل جماعة مصر الفتاة والحزب الوطنى الأهلي التى كانت تطرح مشروعات للإصلاح الوطنى والدستورى ومن ثم تعد جمعية مصر الفتاة أقدم تشكيل حزبى عرفته مصر فى تاريخها الحديث وقد تأسست فى مدينة الإسكندرية وإقتبست إسمها من تنظيم وطنى إيطالى كان قد لعب دورا بارزا فى تحقيق الوحدة الإيطالية كان يسمى إيطاليا الفتاة ويظن أن إختيار الإسم جاء بتأثير إختلاط الجالية الإيطالية فى الإسكندرية بالمصريين وكان للجمعية جريدة ناطقة بإسمها تحمل أيضا إسم مصر الفتاة وقد تم مصادرة أعدادها ثم تعطيلها نهائيا فى شهر نوفمبر عام 1879م وكان رئيس هذه الجمعية غير معروف لكن نائب رئيسها كان رئيسا لمحكمة أسيوط وكان إسمه محمد أمين وكان كاتم سرها إسمه محمود واصف وكان ممن إتصل بالجمعية وإنضم إليها عبدالله النديم كما ذكرنا في السطور السابقة وكان للجمعية برنامج سياسى يدعو لإقامة نظام سياسى جديد يقوم على توزيع السلطات وتوازنها وإستقلال القضاء وتحقيق المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون وصيانة الحريات الشخصية وحرية الإعتقاد والتعبير وتطوير التعليم العام والإهتمام به وإعادة تنظيم الجيش والإصلاح الضريبى والإقتصادى للتخلص من أزمة الدين العام التي تسببت في التدخل الأجنبي من جانب بريطانيا وفرنسا في شئون البلاد كما إهتمت الجمعية بأوضاع الفلاحين والطبقات الشعبية ولكنها لم تستمر فحسب ما ذكره الدكتور محمود متولى فى كتابه مصر والحياة الحزبية والنيابية قبل عام 1952م إنتقل أعضاء الجمعية تدريجيا إلى الحزب الوطنى الأهلي .

وهذا الحزب قام بتشكيله بعض الموقعين على العريضة الوطنية فى شكل جماعة أخذت تجتمع بشكل سرى فى القاهرة فى بيت السيد البكرى نقيب الأشراف ثم فى بيت محمد سلطان باشا كبير أعيان مديرية المنيا ورئيس البرلمان فيما بعد وعرفت بإسم الحزب الوطنى الأهلى كما عرفت بإسم جماعة حلوان بسبب نقل إجتماعاتها إلى حلوان بعيدا عن عيون شرطة مصطفي رياض باشا رئيس النظار وقد بدأت هذه المجموعة نشاطها الرسمى في يوم 4 نوفمبر عام 1879م بإصدار بيان سياسى طبعوا منه 20 ألف نسخة تم توزيعها فى أنحاء البلاد وفشل رياض باشا فى التوصل إلى المجموعة التى تقود الحزب وكان محمد سلطان باشا أول رئيس للحزب وقد ضم هذا الحزب فى عضويته عناصر مدنية وعسكرية وعددا من قادة الرأى البارزين آنذاك تبنوا برنامجا للإصلاح السياسى والإقتصادى منهم سليمان أباظة باشا وحسن الشريعى باشا ومحمد شريف باشا وإسماعيل راغب باشا وعمر لطفى باشا ومن العسكريين شاهين كينج باشا ناظر الحربية السابق ومحمود سامى البارودى باشا وأحمد عرابى باشا وعبدالعال بك حلمى وعلى بك فهمى وتوالت بيانات الحزب فى الداخل والخارج تحمل مطالب الحركة الوطنية المصرية وفى ذات الوقت تم تكليف أديب إسحاق بإصدار صحيفة فى باريس إسمها القاهرة لتكون لسان حال الحزب الوطنى الأهلي بعد إغلاق جريدتى مصر والتجارة المعبرتين عن التيار الوطنى وكانت أعداد جريدة القاهرة تدخل إلى البلاد مهربة ويتم تداولها سرا وتعرف النديم أيضا على محمود سامى البارودي باشا وإشترك فى الثورة العرابية عام 1881م وإنضم لها بقلمه ولسانه فكان وقودا لهذه الثورة حيث كان صوته يجلجل فى الآذان ويوقظ الأسماع بنبرته المعبرة وأدائه الخطابى البديع وذهب عبدالله النديم إلى مصطفي رياض باشا حينذاك وإجتمع به كى يحصل منه على الموافقة بإصدار جريدة وقال في هذا الصدد إجتمعت برياض باشا وقد أضمر لى الضر فنافقته ونافقنى وجاذبته الحديث فوافقنى حتى أخذت منه إذنا بجريدة التنكيت وما أردت إلا التبكيت وقصدت أن تكون لسانى ليكون لى فى كل بلد محافل خطابية وقد أسفرت هذه المقابلة عن مولد جريدة التنكيت والتبكيت وكان الهدف من إصدارها مؤازرة الثورة العرابية وتم بالفعل صدور العدد الأول منها عن مطبعة المحروسة فى الإسكندرية بتاريخ 6 يونيو عام 1881م .

وكانت جريدة التنكيت والتبكيت جريدة وطنية أسبوعية هزلية فى هيئة كراسة بهدف تسهيل جمعها فى مجلد فى آخر كل سنة وكتب إسمها فى الجزء العلوى من الغلاف بخط النسخ بحجم كبير وزين العنوان هلال ونجمة وحدد النديم موضوعات الجريدة وغايتها فى إفتتاحية العدد الأول قائلا هى صحيفة أدبية تهذيبية تتلو عليك حكمًا وآدابا ومواعظ وفوائد ومضحكات فى لغة سهلة لا يحتقرها العالم ولا يحتاج معها الجاهل إلى تفسير وتصور لك الوقائع والحوادث بصورة ترتاح إليها النفوس وتميل ويخبرك ظاهرها المستحسن المستهجن بأن باطنها له معان مألوفة وينبهك نقابها الخلق بأن تحته جمالا بعشق تذهب الأرواح فى طلبه ويضيف النديم لا تظن مضحكاتها هزءا بنا ولا سخرية بأعمالنا فما هى إلا نفثات مصدور وزفرات يصعدها مقابلة حاضرنا بماضينا ووجه النديم الدعوة إلى كتاب عصره بأن يوافوه بمقالاتهم على النمط الذى إختطه لجريدته لينشرها قائلا كونوا معى فى المشرب الذى إلتزمته والمذهب الذى إنتحلته أفكارا تخيلية وفوائد تاريخية وأمثال أدبية وتبكيت ينادى بقبح الجهالة وذم الخرافات ومن الملاحظ حول فن الإخراج الصحفى للجريدة أن النديم كان مثله كمثل الكثيرين من صحفيى ذلك العصر لم يراع فن التبويب وإخراج الصفحات لذلك كانت الصحيفة عبارة عن صفحات مكتوبة لا يفصل الموضوع عن الخبر إلا عنوان الموضع التالى وفي نفس الوقت الذى أصدر فيه عبد الله النديم جريدته التنكيت والتبكيت عمل مدرسا لبعض الوقت وكان مدرسا من طراز فريد أنشأ مع تلامذته فرقة مسرحية ولم يكتف بدور المؤلف أو المخرج وإنما شاركهم التمثيل أيضا وللأسف الشديد لم يحفظ التاريخ هذه النصوص المسرحية وإن كان أحمد سمير وهو سكرتيره الشخصي في أخريات عمره قال إن النديم قد تناول فيها المجتمع وأظهر المساوئ الإجتماعية آنذاك مثل الإنحلال الخلقي والفقر والجهل وكان البعض يهاجمه بأن التمثيل عمل لا قيمة له ولا فائدة من ورائه ويتهمون الممثلين بأنهم مضحكون ومهرجون لكنه كان يدافع عنهم بثقة قائلا لا ينبغي النظر إلى الممثلين بإعتبارهم مضحكين ومهرجين بل إن التمثيل وسيلة لدفع الظلم والنقد السياسي وبذلك كان يرى أن التمثيل فن بديع يستهدف تهذيب العقول وتوسيع أفكار الأمم ويقوم مقام أستاذ يلقن تلامذته بما تألفه نفوسهم وهكذا فإذا كان الفنان الكبير يعقوب صنوع يعده البعض رائدا للمسرح العربي فإن النديم بلا شك ممن تناساهم المؤرخون في هذا المجال .

ولم يتخذ النديم الكتابة حرفة لأكل العيش فقد كان يكتب بنبضه ودمه ولو كان من طائفة المتكسبين لما أقدم على أخطر خطوة في حياته بعدما فاض به الكيل في محاولة الإصلاح الإجتماعي لم يجد سبيلا سوى تغيير هذه الأنظمة السياسية التي تسير المجتمع وعند قيام الثورة العرابية عام 1881م بقيادة أحمد عرابي باشا ومحمود سامي البارودى باشا إنضم النديم إليها وأصبح قائد دعايتها وصارت التنكيت والتبكيت لسان حال الثورة لكن عرابى طلب منه تغيير إسمها إلي إسم آخر يتناسب مع الظروف التى يمر بها الوطن وإقترح عليه أن يكون هذا الإسم هو لسان الأمة وأن تكون موضوعاتها سياسية تهذيبيةً للذود عن حقوق الأمة والدفاع عنها وأرسل عرابي إلى إدارة المطبوعات بخصوص هذا التغيير خطاباً قال فيه لدخولنا فى عصر جديد وفوت زمن التنكيت والتبكيت إقتضى تبديل إسم جريدة التنكيت والتبكيت الأدبية التهذيبية وإستقر الرأى عليه بالممارسة مع حضرة الفاضل عبد الله أفندى نديم محررها ومدير إدارتها بإسم لسان الأمة ويبدو أن هذا الإسم لم ينل إعجاب النديم فاصدرها تحت إسم الطائف وقد إختار هذا الإسم لتفاؤله بأن الجريدة ستطوف البلدان الإسلامية وتيمنا بالبلدة الموجودة بهذا الإسم فى الحجاز ويقول النديم خلصنا من زمن التنكيت والتبكيت وأصبحنا فى زمن الحرية ومعرفة الحقوق وهذا الذى فرض علينا تغيير إسم الجريدة ومشربها وأثناء الثورة العربية كان النديم يعد هو الزعيم الشعبي لها وكان يقوم بجمع التوقيعات من أجل توكيل الزعيم أحمد عرابي في الحديث بإسم الأمة وقام بحشد الجماهير لتقف مع الجيش في ميدان عابدين في يوم 9 سبتمبر عام 1881م مما جعل الجيش والشعب يدا واحدة من أجل الثورة وأفسد المخططات الرامية لعزل الشعب عن الجيش والوقيعة بينهما وكان يذهب إلى الفلاحين في الحقول وإلى الطلبة في المدارس والمعاهد والكتاتيب يدعوهم إلى الثورة ورفض التدخل الأجنبي في شئون البلاد ومما جاء في آخر خطبة له قوله نحن نعاني منذ حقبة طويلة من داء عضال أضر بأمتنا ورسالتنا في الوجود على الرغم من أننا أُمة وسطية مبتعثين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وليس أحد سوانا قادر على إنتشال سفينة البشرية التائهة في خضم المحيط إلى مرفأ السلامة وشاطئ الأمان . ولما فشلت الثورة العرابية وإنتهي الأمر بالإحتلال البريطاني لمصر في شهر سبتمبر عام 1882م وتم القبض علي قادتها كان النديم أيضا من ضمن المطلوب القبض عليهم لكنه هرب وتخفي لمدة عشر سنين وتوقف صدور التبكيت والتنكيت أو الطائف في شهر أكتوبر عام 1882م ولم تتخل عنه زوجته الوفية ولا خادمه الأمين والذى حكي عنه كيف كان يتخفى ويتنكر في أزياء مختلفة بين شيخ وقسيس أو عجوز وإمرأة ومن فرط معرفته بحيل التخفي ألف رسالة في التنكر وطرق الهرب سماها الإحتفاء في الإختفاء وأثناء هربه طاف معظم قرى مصر وكان أهم ما يساعده سعيه وراء الموالد التي تقام للأولياء فينظر إليه الناس كواحد من المجاذيب أو المريدين وبالتالي لا يشك أهل القرية أو السلطات في دخوله وخروجه وعلاوة علي ذلك فنظرا لأنه قد عاش مجاهدا وعاشقا للوطن ونصيرا للمستضعفين بادله الشعب حبا بحب وإعجابا بإعجاب فمنحه ثقته وتعهد بحمايته طوال هذه السنوات العشر حتى إن المسئولين في جهاز البوليس كانوا يتسترون عليه ولا يكشفون مكان إختبائه فهذا مأمور مركز السنطة بمحافظة الغربية يقابله وجها لوجه ولا يقبض عليه مخاطرا بوظيفته بل ويمنحه مالا من جيبه ليساعده على الهرب وكاتب مركز السنطة أيضا كان يعرف مخبأه فيكتب إليه أبياتا ًمن الشعر يقول فيها ولقد نذرت إذا لقيتك سالما أُقبلن مواطئ الأقدام ولأُثنين على سجاياكَ التي حثت على التحريرِ والإقدام وقد تم العثور علي النديم في أوائل عام 1892م وكانت قصة القبض عليه تعكس عبقريته ونهمه للقراءة وعدم الإستغناء عنها أبدا ويحكي خادمه الوفي أنه لما إشتدت الملاحقات وضيق الخناق عليه وعلي النديم وزوجته إختبأ ثلاثتهم في سرداب مهجور تحت الأرض لمدة 9 أشهر ورفض النديم الإقلاع عن القراءة أو ترك الكتابة فكان يوقد بالليل مصباح غاز يقرأ على ضوئه رغم توسلات الزوجة والخادم وشكواهم من الهواء الفاسد الذي يكاد أن يخنقهم وفي ليلة القبض عليه فسد المصباح فإنتشرت رائحته الكريهة فإنطلق الخفر يستطلعون الأمر فوجدوا النديم المطلوب القبض عليه بعد 10 سنوات من الهروب والتخفي تغلغل خلالها في أعماق أهلها ورفض الإستسلام بما يعكس طبيعته الصلدة وشخصيته المتحدية ومن عجائب القدر أن وكيل النيابة الذى حقق معه كان المفكر قاسم أمين وهو الذي إشتهر بعد ذلك بدفاعه عن المرأة وهجومه على ظلم العادات لها والإستهانة بقدرها وفي البداية تم سجن النديم لفترة قصيرة ثم أطلق سراحه بعد أن عفا عنه الخديوى توفيق بشرط أن يخرج من مصر فغادرها إلي فلسطين وأقام في يافا .


وبعد وفاة الخديوى توفيق وتولي إبنه الخديوى عباس حلمي الثاني الحكم سمح له بالعودة إلى بلاده فعاد وإستوطن القاهرة وأنشأ مجلة الأستاذ عام 1893م وكانت أخف لهجة من أختها الكبرى التنكيت والتبكيت وصدم النديم بما آل إليه المجتمع المصري من إنحلال خلقي وتفشي العري وإنتشار الخمور وذلك لأن السنوات العشر التي قضاها هاربا غيبته بعض الشئ عن هذا المجتمع الذي عمل فيه المستعمر الإنجليزي بكافة أدوات الهدم التي يمتلكها ورأى في البداية أن الأنسب أن تصدر الجريدة بالعامية المصرية البسيطة التي يفهمها الناس جميعا حتى الفلاحة في بيتها تسمعها من زوجها أو إبنها فتفهمها وتستسيغ أفكارها لكن المجتمع الثقافي آنذاك لم يتقبل الفكرة وهو ما إضطره للعودة إلى الفصحى رغم أن عاميتها كانت بشهادة معاصريه أقرب إلى لغة الصحافة التي عرفناها فيما بعد ومن خلال مجلته إستمر النديم في خطه قدما بنفس القوة في الهجوم على المظالم المتفشية ومقاومة الإحتلال ورفع همة المصريين فنالت شهرة كبيرة ولعبت دورا كبيرا فى شحذ الشعور الوطنى للمصريين غير عابئ بما يمكن أن يتعرض له من مشاكل أو أن يتعرض للنفي مرة أخرى وعلي صفحاتها خاض عشرات المعارك الفكرية والثقافية دفاعا عن هوية الأمة العربية والإسلامية منها معركة لغة الضاد التي بدأها بإفتتاحية قائلا اللغة العربية إحدى مقومات الأمة بل هي المقوم الأساسي لأنها سبيل توصيل العقيدة والإنفعال بها وصياغة الأمة وتنظيم نمط تفكيرها وإعادة بناء نسيجها وحماية ذاكرتها وبناء سياجها الثقافي والحيلولة دون إختراقه لذا لم يتنازل الإسلام عن أمر اللغة لأنها الميثاق الجامع والصعيد المشترك والقاعدة الثقافية والفكرية والحصن العقلي للأمة ووسيلتها إلى الترقي والنهوض فالله سبحانه وتعالي خلق أول ما خلق القلم وكانت أولى التعاليم السماوية بعد الخلق الأول تعليم الأسماء وعلم آدم الأسماء كلها وبدأت الرسالة الخاتمة بكلمة إقرأ فالعربية هي اللسان وليست الجنس ولا الجغرافيا .

وخاض عبد الله النديم أيضا من خلال مجلته الأستاذ معركة فكرية أخرى وهي معركة التقدم والتخلف وقد ندد فيها بالوجود الأجنبي في بلاد المسلمين وطالب بالوحدة والتضامن العربي والإسلامي فكتب يقول إن العالَم من حولنا يجري بسرعة مذهلة والفجوة بين العالم المتقدم والعالم الإسلامي تزداد إتساعا يوما بعد يوم وليس هناك مفر أمامه من التحرك السريع والتصدي لهذه التحديات والعمل بسرعة لتغيير هذا الوضع المتخلف ولن يسعفنا في ذلك أو يساعدنا على الخروج من هذا المأزق الخطير قوة خارجية أو حتى غيبية وإنما التغيير يجب أن يكون ذاتيا منبعثا من إرادة صادقة فزمن المعجزات قد ولَى والقانون القرآني في التغيير يحدد لنا معالم الطريق حين يقول إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم ولا يجوز للمسلمين أن يكونوا مجرد متقبلين أو مستهلكين لمنتجات العصر وأفكاره فدينهم العظيم يفرض عليهم أن يكونوا مشاركين بفاعلية في كل التطورات العلمية التي تخدم الإنسانية ومن أقوال النديم الشهيرة في هذا الصدد إن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلاما لذيذة في نفوس أصحابها ولا تتحول إلي حقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة وكان من الطبيعي بعد ذلك أن يضيق الإنجليز به ذرعا ومن ثم أصدر اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر أوامره بنفيه خارح مصر مرة أخرى إلي يافا ثم إلى الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية وهناك عمل في ديوان المعارف مفتشا للمطبوعات في الباب العالى وتم منعه من الكتابة وحدث أن إصطدم بأحد أفراد حاشية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ويسمى أبو الهدى الصيادي مستشار السلطان وكان يسميه أبا الضلال وكتب فيه كتاب المسامير أظهر من خلاله الشيطان شخصية مهزومة أمام أبي الضلال وكان هذا الكتاب أحد نفائس فن الهجاء في التاريخ العربي وقد أوغر هذا الشخص صدر الخليفة علي النديم وهو ما دفع الخليفة لتجريحه والإنتقاص من قدره فلم يتوان النديم عن الرد بخطاب قوي بدأه بتفصيل عاقبة الظلم ومصير الظالمين وبين له أن إنتقاصه له إنما هو ظلم بين ثم ختمه بقوله إننا سنقف بين يدي عادل قاهر يقضي بيننا بالحق وهو خير الحاكمين وفي إقامته الإجبارية بتركيا لم يجد النديم سوى أستاذه الأفغاني الذى كان هو الآخر منفيا بالآستانة فكان عزاءا له وسلوى وفي الكثير من الأمسيات كان الأستاذ والتلميذ يلتقيان معا ويتذكران أيام النضال وأحداث الثورة العرابية ويطوفان على سيرة الرفاق من زعماء الثورة الذين طالت مدة نفيهم في جزيرة سيلان وهي سرى لانكا حاليا ويستعرضان دوحة الشباب وما كان فيها من وارف الأغصان وعن طريق الأستاذ تعرف النديم على وزراء وأعيان لكنه لم ينس مصر وعندما زار الخديوي عباس حلمي الثاني الآستانة عام 1895م طلب منه العودة إلي مصر فأجيب طلبه وفعلا صعد إلى الباخرة التي ستحمله إلي بلاده يغمر قلبه الحنين إلى وطنه ولكن جواسيس وعيون السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أبرقوا على الفور إليه فأوقفت الباخرة وإنتزع النديم منها وسيق إلى المنفى الذهبي من جديد .

وفي النهاية لا يفوتنا أن نذكر أن النديم لم يمنعه الفن والملاحقات ولا إهتماماته السياسية من الإدلاء برأيه في مشكلات الشرق التي يراها وبالأخص نقد الغرب معبود المثقفين في عصره ويقول إن دول أوروبا وبصفة خاصة روسيا وبريطانيا وفرنسا هي السبب في شرذمة الشرق بحربها الشرسة على الخلافة العثمانية والعمل علي تمزيق أملاكها وإثارة القلاقل في الأقاليم التي تحكمها ويقول أيضا لو كانت الدولة العثمانية مسيحية لبقيت بقاء الدهر ثم يعيب على دعاة الحرية المزعومة أنهم نادوا بالتخلص من ربقة المنظومة الإسلامية بدعوى الحرية وفي المقابل وقعوا في عبودية الغرب ويحدد مصطلح الحرية فيقول الحر هو من ملك أمره ولم تتقيد أفكاره بغرض ما ولكن هؤلاء المتغربين يحكمون على الفكر الأوروبي من منطلق هوسهم وعلاوة علي ذلك فقد نسب فضل التقدم الأوروبي إلى الحضارة الإسلامية قائلا كل ما في الكون الآن من العلماء إنما هم تلامذة المسلمين وفي عنق كل منهم دين للدين الإسلامي ويدهشنا النديم في موقفه الوسطي من أوروبا والدهشة هنا مبعثها هذا الموقف الناضج المتبصر في هذا الوقت المبكر الذي كانت أوروبا لا تجد في الشرق إلا صيدا سهلا مما كان سيعطيه العذر تماما إن تحامل عليها وهاجمها لكن النديم يفاجئنا بأنه لا يرفض أوروبا بالكلية لكنه يمدح كثيرا من أسس التقدم لديهم وينادي الشرق بالرجوع إليها مثل حرية الكتاب في نشر أفكارهم وتشجيع المخترعين والمبتكرين ومساهمة أصحاب الأموال في دفع النهضة وتطبيق نظم التعليم الإجباري وبناء المؤسسات الإجتماعية المتميزة وتأسيس المجالس النيابية ومشاركة الأفراد في إدارة الوطن وقد رفض النديم بشكل قاطع إدعاءات أوروبا بأنها علمانية ويستشهد على ذلك بأن فرنسا أصدرت أمرا للكنائس يلزم الأمة كلها بالصلوات كلما جابهتهم أزمة سياسية أو إقتصادية .

وبعد عدة شهور من محاولة النديم العودة إلي مصر مرض وتراجعت صحته ونهش السل الرئوي صدره وأحس بدنو أجله فأخبر أمه وأخاه في مصر وإستقدمهما ولكن الموت جذبه إليه قبل أن يصلا فتوفي وحيدا غريباً عام 1896م دون أن يترك زوجاً أو ولدا أو حطاما وكل ما تركه سيرة عطرة وحياة حافلة وجدير بالذكر أنه كانت للنديم العديد من المؤلفات منها الإحتفاء في الإختفاء واللآلئ والدرر في فواتح السور والبديع في مدح الشفيع والساق على الساق في مكابدة المشاق والنحلة في الرحلة والمترادفات وكان ويكون والذي يعد أهم كتبه وعرض فيه آراءه في الدين واللغة والسياسة والحياة ورغم أنه من المؤلفات العظيمة التي لم تصلنا إلا أن الفيلسوف والمفكر أحمد أمين قال عن هذا الكتاب إن ما نشر منه ووصلنا يدل على نظر عميق وإطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة وعاطفة جياشة بحب الإسلام ومصر والشرق وفضلا عن ذلك فقد ألف النديم ديوان شعر سماه سلافة النديم والذي يحتوي على سبعة آلاف بيت تتنوع بين المقطوعات والقصائد الطوال وجاءت قصائده إمتدادا لحياته الوطنية وكانت للنديم أيضا أزجال ومواويل تتفاوت في مستواها الأسلوبي ولكنها تتفق في نزعتها النقدية التحريضية مع شِعره الفصيح حيث كان كل منهما يدور حول الثورة والإصلاح والدعوة إلى البعث والنهوض والفخر بأمجاد أمته ومعالجة القضايا الوطنية في عصره وكانت له أيضا روايتان هما العرب والوطن وللأسف لم يصلنا منها إلا مقتطفات ويرجع هذا لسببن الأول فترات الهروب والنفي والملاحقات الأمنية التي أصبحت فيها كتابات النديم بمثابة منشورات سرية ثورية يتناقلها البسطاء والأحرار في كل مصر وتعرضت لها الدولة بالرصد والمنع والحرق والثاني أنه في أخريات حياته طلب من أصدقائه ما عندهم من كتبه لأنه كان يعطي كتبه لمن يطلبها من أصدقائه لكي يقوم بحرقها لأنه وجد فيها هجاءا كثيرا وتجريحا في بعض الشخصيات ولما عاتبوه على ذلك قال قد خلعت تلك الثياب الدنسة ولبست ثوب إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ومما يذكر أنه في عام 1982م قد تم إنتاج مسلسل عن قصة حياته وسيرته الذاتية بإسم النديم من إخراج علوية زكي وتأليف الكاتب يسرى الجندى وجسد شخصيته فيه الفنان القدير عزت العلايلي وشاركه البطولة الفنانون الكبار محمود المليجي وكمال ياسين وجميل راتب وعبد الحفيظ التطاوى ورشوان توفيق وحمدى غيث وعبد البديع العربي وعبد السلام محمد وعفاف شعيب وعزيزة حلمي وعقيلة راتب .