الجمعة, 29 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

برونو كرايسكي..المحنك الذي رسم دور النمسا في الشرق الاوسط

برونو كرايسكي..المحنك الذي رسم دور النمسا في الشرق الاوسط
عدد : 02-2019
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com


برونو كرايسكي سياسي نمساوي شهير شغل منصب وزير الخارجية بدولة النمسا بين عام 1959م وعام 1966م ثم منصب مستشار النمسا بين عام 1970م وعام 1983م ويعد أنجح قادة النمسا الإشتراكيين وأكثرهم تأثيرا إذ تحولت النمسا في فترة توليه منصب المستشار من دولة صغيرة محايدة إلى دولة ذات ثقل مؤثر في السياسة العالمية علاوة علي تحقيق نهضة إقتصادية كبيرة جعلت النمسا من أغني دول العالم حاليا وتكريما له فقد قامت مؤسسة برونو كرايسكي لحقوق الإنسان والتي تأُسست في شهر أكتوبر عام 1976م في مناسبة بلوغ المستشار النمساوي برونو كرايسكي سن الخامسة والستين بإنشاء جائزة سميت جائزة برونو كرايسكي لحقوق الإنسان وهي جائزة دولية تمنحها هذه المؤسسة كل عامين بهدف تكريم ذوي الإنجازات البارزة في مجال حقوق الإنسان وقد قُسمت الجائزة في عام 1993م إلى قسمين أحدهما لحقوق الإنسان والأخرى تقديرا للجدارة وقد تم منحها في 14 دورة لها لأكثر من 130 شخصا ومؤسسة ومشروع حقوقي ويتولى إختيار الفائزين بالجائزة كيانان هما مجلس أمناء مؤسسة برونو كرايسكي وهيئة محلفين دولية ومن أبرز الأشخاص الذين حصلوا عليها الزعيم الجنوب أفريقي نلسون مانديلا والرئيس الكورى الأسبق كيم داى جنج في عام 1981م والرئيس البرازيلي الأسبق لولا داسيلفا في عام 1984م ورئيسة الوزراء الباكستانية الراحلة بينظير بوتو في عام 1988م والمحامي السورى والناشط في مجال حقوق الإنسان مازن درويش في عام 2013م ومن المنظمات التي حصلت عليها منظمة العفو الدولية في عام 1979م ومنظمة السلام الأخضر في عام 1988م والصليب الأحمر النمساوى في عام 1991م والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في عام 2002م .


وقد ولد كرايسكي في يوم 22 يناير عام 1911م وأنهى دراسته في جامعة فيينا ونال شهادة الدكتوراة في الحقوق في شهر مارس عام 1938م وهو نفس الشهر الذي دخلت فيه جيوش أدولف هتلر فيينا وتم ضم النمسا الى الرايخ الألماني وقام الجيستابو النازي بإعتقاله بعد الإحتلال لكنه تمكن من الهرب إلى دولة السويد طالبا اللجوء إليها وفيها تعلم الإشتراكية والديموقراطية وأتقن الدرس وطبقه في النمسا عند عودته إلي بلاده فيما بعد والذى حرره الحلفاء من يد النازيين بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م وإن كانت النمسا قد ظلت تحت الإحتلال لمدة عشر سنوات حتى نيلها الحرية والإستقلال عام 1955م وقد قضى كرايسكي في السويد ثلاثة عشر عاما عمل خلالها مراسلا صحفيا ناجحا لعدة صحف في قارة أوروبا ونشط في مجال العمل الإنساني بتمثيل النمسا في السويد من خلال عمله كسكرتير في إحدى المؤسسات الخيرية السويدية وذلك بالتنسيق والتعاون مع منظمة الصليب الأحمر الدولي حيث أشرف علي جمع التبرعات والمساعدات الإنسانية وإرسال شاحنات الأغذية إلى الشعب النمساوي الجائع ضحية الحرب الطويلة وتزوج كرايسكي فيرا وهي إبنة مهاجر نمساوي نجح في عمله في السويد منذ عام 1908م وأقام أكبر مصانع النسيج فيها ورزق بولد سماه بيتر توفي في شهر نوفمبر عام 2010م وببنت إسمها سوزان ما زالت علي قيد الحياة وبعيدة عن عالم السياسة ولم يتقدم كرايسكي بطلب الحصول علي حق اللجوء إلي السويد بل بقي كمهاجر حتى لا يفقد حقه في العودة للنمسا وبالتالي فلم يحصل على الجنسية السويدية وعاد بجواز سفره النمساوي إلى الوطن للمرة الأولى عام 1951م بناءا على عدم موافقة الأمريكان على عودته مباشرة إلي بلاده بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م والتي إنتهت بإندحار النازية حيث بقي في ستوكهولم عاصمة السويد دبلوماسيا في المفوضية النمساوية .

وبعودة كرايسكي الى النمسا عام 1951م عمل في وزارة الخارجية وأصبح وزيرا لها ما بين عام 1959م وعام 1966م وليتدرج في العمل السياسي والحزبي حتى تربع على عرش الحزب الإشتراكي النمساوي ما بين عام 1967م وعام 1983م الذي رفعه إلى أقوى وأكبر شخصية وظاهرة سياسية في تاريخ النمسا وأثناء عمله في وزارة الخارجية ثم كوزير للخارجية عمل كرايسكي على بناء المؤسسات الجديدة وتثبيت إستقلال النمسا وإحياء إقتصادها والسير على مبدأ الحياد وتحقيق العمل في التوصل إلى معاهدة الإستقلال لإنهاء الإحتلال وإخراج الدول الأربع من النمسا عام 1955م مع السعي لإنضمام النمسا إلى المنظمات الدولية بما فيها منظمة التجارة الحرة والسوق الأوروبية المشتركة تمهيدا لدخولها الإتحاد الأوروبي كما عمل علي تحسين العلاقات مع الدول المجاورة ودعم أفق الإستقرار في قارة أوروبا من خلال مناداته بعودة الدول الشيوعية وعلى رأسها الإتحاد السوفييتي إلى طريق الديموقراطية كما هو الحال في أوروبا الغربية وإنتقد كرايسكي بشدة تدخل الإتحاد السوفيتي العسكري في تشيكوسلوفاكيا عام 1968م مثلما إنتقد تدخله العسكري في فنلندا عام 1939م وفي عام 1970م أصبح كرايسكي مستشارا للنمسا وذلك بعد أن تولي منصب وزير الخارجية لمدة ست سنوات ثم بقائه بعيدا عن المناصب الرسمية 4 سنوات وظل في هذا المنصب حتى عام 1983م حيث داهمه مرض الفشل الكلوى الذى أجبره علي إعلان إعتزاله وقضي سنواته الأخيرة قعيدا علي كرسي متحرك في أحد المصحات وكان معروفا عنه أنه يتمتع بشخصية ساحرة وانه السياسي الماهر ولذا إكتسح الإنتخابات بالأغلبية في عام 1971م وفي عام 1975م ثم في عام 1979م رغم معاداة النازيين والصهاينة له كما أنه يعد بحق أكبر شخصية نمساوية شهرة بعد السياسي النمساوى كليمنز فون مترنيخ وزير خارجيتها ومستشارها في العهد الإمبراطوري خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادى الذي لعب دورا كبيرا أثناء إنعقاد مؤتمر فيينا الشهير عام 1815م ونال إعجاب جميع ممثلي الدول الذين حضروا هذا المؤتمر حيث تمكن من التوصل لتسويات للمشاكل العديدة المتعلقة بكل من بروسيا وبولندا وإيطاليا والأراضى المنخفضه النمسوية وهي بلجيكا الحالية وهولندا إلا أن أعظم أهدافه التي تحققت كان نجاحه في تحقيق توازن دقيق بين القوى الأوروبية الرئيسية روسيا وبروسيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وخرج مترنيخ من هذا المؤتمر مقتنعا بأنه قد وضع أساسا راسخا لقيام سلام دائم في قارة أوروبا .

وجدير بالذكر أن كرايسكي يعد أول مستشار يهودي للنمسا وبإختياره ليشغل هذا المنصب إتخذ له سكنا بالإيجار في إحدى مناطق العاصمة فيينا وأخذ يعمل جاهدا على تثبيت وإصلاح الديموقراطية في المؤسسات النمساوية بدلا من الدكتاتورية التي جاء بها ورسخها هتلر في البلاد وكان يتبع مبدأ قال فيه لا وجود للإشتراكية دون قيام الديموقراطية وكان هم كرايسكي الكبير هو كيف يطبق ديموقراطية الدولة الغنية السويد كنموذج في النمسا الدولة الفقيرة التي خرجت منهارة بعد الحرب العالمية الثانية حتى يجنبها مأساة الفقر والمجاعة وكان ينادي في مؤتمراته ويقول إني أريد أن أخدم النمسا تماما مثلما أرادت الإمبراطورة ماريا تريزا وفي عهد كرايسكي وصلت مدن وقرى النمسا وعلي رأسها العاصمة فيينا إلي درجة كبيرة من التقدم والرقي والنظام والشهرة التي تفانى كرايسكي في العمل من اجل جعلها علي أعلي درجة من التقدم والرقي فانشئت بها العديد من الساحات والمنتزهات والحدائق التي لا تخلو من تماثيل لكرايسكي كذلك دور الرعاية الإجتماعية والمؤسسات الخيرية والمنتديات والنوادي والمسارح والمستشفيات وقاعات الدراسة في الجامعات والمعاهد والمكتبات والمؤسسات التي تمنح الجوائز من أجل العمل الإنساني والتي لا تخلو أيضا من أن يطلق إسم كرايسكي على الكثير منها كما تم تطوير وإعادة تأهيل المدينة القديمة في مدن البلاد الكبرى مثل العاصمة فيينا وسالزبورج ولينز وإنسبروك وغيرها بأزقتها وحاراتها الضيقة وشوارعها وبناياتها وكان كرايسكي يرفض ان يسمى بالسياسي المحترف بل يقول إنه الهاوي الجديد وبذلك إستطاع كرايسكي أن يضع النمسا على طريق التقدم والرقي والشهرة والثروة والديموقراطية الإشتراكية ورفع حزبه إلى أعلى درجات النجاح في تاريخ قارة أوروبا الحديث بعد أن جمع فيه طبقات المثقفين الشباب وشخصيات من الكاثوليك وحتى من النازيين القدامى الذين آمنوا برسالة كرايسكي مثل يورك حيدر زعيم حزب الحرية النمساوي المثير للجدل والذي توفي في حادث وقع له في سيارته عام 2010م والذي قال عنه كرايسكي إنه يشكل كفاءة جديرة بالدراسة علما أن خلفيته في رئاسة الحزب الشاب شتراخر كان أكثر عنصرية مركزا جوانب عدة من نشاطه على محاربة الاسلام والمسلمين والمطالبة بطردهم من النمسا ومن القارة الأوروبية عموما معتمدا على ما تقوم به القاعدة والمسلمون المتطرفون ضد البلدان الأوروبية المضيفة لهم وذلك بعد أن أصبحت النمسا بفضل حزب كرايسكي الحاكم ملاذا للمهاجرين واللاجئين المسلمين من العرب وغيرهم الذين يعيشون في أمن وأمان في الدولة التي لا تفرق بين الأديان والأجناس والتي تدفع لهم تكاليف العيش والسكن اللائق وترعى أطفالهم بالتعليم والرعاية الصحية والمساعدات المالية السخية رغم كل مشاكلهم وعدم إحترام البعض منهم للقوانين أو إعترافهم بالنعمة التي وهبتها لهم الدولة في الوقت الذي بدأت فيه تزداد موجات المهاجرين إلى النمسا وخاصة في السنوات الأخيرة مما يشكل العديد من صور المآسي الإنسانية والمشاكل الإقتصادية في النمسا وفي جميع دول الإتحاد الأوروبي بوجه عام .


ومن مواقف ومبادئ كرايسكي الشهيرة أنه كانت له أوثق العلاقات بالشخصيات الدولية في الغرب والشرق فقد دعم الزعماء الدوليين آنذاك في مواقفهم الوطنية ووقف مع مبادئ مؤتمر باندونج بإندونيسيا الذى عقد في عام 1955م وأرسي مبادئ عدم الإنحياز ومبدأ الحياد الإيجابي وكان بمثابة النواة الاولى لنشأة حركة عدم الإنحياز وتوثيق التعاون الدولي وشجب التمييز العنصري وتأكيد حق الشعوب بما فيها العربية في الإستقلال ونيل حقوقها الوطنية وكان على طول الخط مطالبا بإقامة دولة فلسطينية أسوة بقيام دولة إسرائيل التي تحارب قيام مثل هذه الدولة حتى اليوم وكان صديقا للزعيم الهندى الكبير جواهر لال نهرو وإبنته رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي والرئيسين المصريين جمال عبد الناصر وأنورالسادات ومحمد رضا بهلوى شاه إيران والزعيم والرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول والرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران والزعيم اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو والزعيم الروسي نيكيتا خروشوف والمستشار الألماني الأسبق فيلي برانت ووزير الخارجية الأميريكي هنرى كيسنجر والرئيسين الأميريكيان الأسبقين جون كنيدي وريتشارد نيكسون الذى قال عنه أثناء زيارته لمدينة سالزبورج النمساوية بأن برونو كرايسكي هو أكثر رجل دولة شهرة في العالم ومن الجدير بالذكر أن بيتر كرايسكي إبن المستشار كرايسكي كان يقود مظاهرة تندد وتدين الرئيس نيكسون بأنه شاعل للحروب وهو على بعد خطوات من لقاء والده كرايسكي ومن جانب آخر فقد عزز كرايسكي مواقفه الوطنية في إعلاء شأن الشخصية النمساوية على أنه نمساوي لأن عموم الأمريكان يرون أن النمساويين هم المان لأنهم يتكلمون اللغة الألمانية وهي اللغة الرسمية للبلاد ولقد دافع كرايسكي عن مبدأ الحياد في النمسا على النموذج السويسري والإمتناع عن إرسال جيوش لمناطق الحروب ولا مانع من المشاركة في تقديم خدمات السلام وتطبيق مبدأ السيادة والعمل على توسيع دائرة الخدمات الإنسانية في النمسا والنجاح في جعل العاصمة فيينا الموقع الثالث بعد مدينتي جنيف ونيويورك كمركز لمنظمة الأمم المتحدة فيها .


وكان كرايسكي هو أول رجل دولة غربي حاول تحرير الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من عزلته كثوري ومناضل وزعيم للمقاومة المسلحة التي يحلو للبعض تسميتها بالإرهاب‏‏ وذلك عن طريق إقامة إتصالات معه وفي البداية كان كرايسكي غير مهتم بعرفات الذي يطالب بقيام دولة مشتركة لليهود والمسيحيين والفلسطينيين فوق أراضي الإنتداب البريطاني في فلسطين وبعودة كل اللاجئين وإن كان عرفات قد قال بعد ذلك بعدة سنوات‏ إن تعبير العودة لا يمكن أخذه بالمعني الحرفي في جميع الحالات ولم يكن لدى كرايسكي حماس للصداقة معه عندما إلتقيا لأول مرة في بداية السبعينيات من القرن العشرين الماضي بناءا علي رغبة الرئيس المصرى الراحل أنور السادات‏‏ حيث كان كرايسكي يشعر بأن عرفات ضعيف‏ الشخصية لكن عرفات لاحظ بسرعة بأنه عن طريق كرايسكي سيتمكن من الوصول إلي الشركاء الذين يعتبرهم مهمين بالنسبة له ولقضيته‏‏ ولم يكن كرايسكي قائدا في الإشتراكية الدولية ويمثل دولة حيادية في أوروبا فحسب‏ لكنه كان ذلك اليهودي الذى جعل الجانب العربي يعتقد بأنه لن يستطيع أحد إتهامه بأنه سيلحق بطريقة ما الضرر بإسرائيل والشعب اليهودي‏ وقد تطورت العلاقة بين كرايسكي وعرفات والتي جاءت في ظروف مناسبة لتتحول إلي علاقة من نوع خاص‏‏ يقف في أحد أطرافها كرايسكي كأب متفهم ونشيط لكنه صارم‏ وفي الجهة الأخري عرفات الذي كان حتي ذلك الوقت زعيما للمقاومة المسلحة‏‏ في حين يراه الطرف الآخر أى إسرائيل زعيما للإرهابيين وحاول كرايسكي إبراز القضية الفلسطينية في الغرب علي أنها قضية عادلة برغم المقاومة الشديدة التي واجهها والتهديدات العنيفة التي تعرض لها شخصيا‏ وكان كرايسكي يهدف إلي أن تشطب منظمة التحرير الفلسطينية تدمير إسرائيل من قاموسها‏ وأن يضمن لها مقابل ذلك الحصول علي دولة خاصة بها‏ وكان كرايسكي هو أول رئيس حكومة غربية يستقبل عرفات بصورة رسمية ويسمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح سفارة في فيينا في عام‏ 1977م وفي العام التالي 1978م أجرى كل من كرايسكي وفيلي برانت زعيم الحزب الإشتراكي الديمقراطي الألماني والرئيس المصرى أنور السادات وزعيم المعارضة الإسرائيلية شيمون بيريز مباحثات مكثفة حول حل سلمي في الشرق الأوسط في فيينا وفي يوم 7 يوليو عام 1979م تم لقاء
في فيينا دعا إليه كرايسكي آنذاك فيلي برانت وياسر عرفات‏‏ خلال إجتماعات لجنة الشمال والجنوب للإشتراكية الدولية‏ والذى يري المراقبون أنه قد أحدث ضجة كبيرة‏‏ خاصة التعانق الحميم بين عرفات وكرايسكي‏‏ وحتي بعد إستقالته عام ‏1983م ظل كرايسكي علي إتصال مع عرفات ‏وبعد ترك المستشار كرايسكي منصبه بحوالي 5 سنوات تم الإعلان الرمزي عن قيام الدولة الفلسطينية في عام ‏1988‏م من قبل البرلمان الفلسطيني في المهجر‏ وهو المجلس الوطني الفلسطيني‏ وسارعت النمسا حينذاك إلي إرسال سفيرها في تونس إلي مقر منظمة التحرير هناك لإعتماده سفيرا لدي دولة فلسطين‏ كما إعترفت في الوقت نفسه بممثل منظمة التحرير في فيينا كسفير وفي عام 1996م قام المستشار النمساوى فرانيتسكي ‏بتوقيع إتفاقية تتعلق بتمويل مشاريع في منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني بمبلغ يزيد علي ‏300‏ مليون شلن نمساوى وبعد سنتين وفي عام 1998م صرح عرفات خلال زيارته لفيينا عندما ترأست النمسا الإتحاد الأوروبي بأن النمسا قامت بفضل صديقه برونو كرايسكي بإتخاذ موقف تضامني مع القضية الفلسطينية حتي في الأيام الصعبة‏ وقد إفتتحت النمسا ممثلية لها لدي سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في رام الله .‏


ومن كواليس بروتوكول اللقاء الأول بين عرفات وكرايسكي التي تم تسجيلها أن عرفات لا يستطيع التصريح علنا ورسميا بأن هدف منظمة التحرير الفلسطينية لم يعد تدمير إسرائيل‏‏ لكن الحقيقة هي أن جميع قيادات المنظمة في الواقع لا تتحدث عن تدمير إسرائيل وإنما عن تحرير المناطق الفلسطينية المحتلة‏ وحسب رأي عرفات‏ فإن الدولة الفلسطينية لا يمكن قيامها إلا علي أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة‏ وإذا ما حصلت منظمة التحرير علي مثل هذه الدولة‏‏ فإن عرفات علي إستعداد للتفاوض مع إسرائيل علي الأمور الأخري‏‏ خاصة مسألة رسم الحدود‏‏ وأن منظمة التحرير ستكون مستعدة في هذه الحالة بالإلتزام حرفيا بما نصت عليه المادة الثانية الفقرة الرابعة من نظام الأمم المتحدة المتعلقة بمنع إستخدام العنف‏‏ وكانت هذه ملاحظات مكتوبة باليد قدمها معاون كرايسكي للشئون الخارجية‏ وكما تظهر الملاحظات‏‏ فقد تحقق بعض التقدم‏ إلا أن النص يشير أيضا إلي ميل عرفات إلي الصيغ ثنائية الدلالة‏ فهو يقول‏‏ لكن يجب علي دولة إسرائيل تعريف دورها في المنطقة‏ والأمر لا يتعلق أخيرا بمنظمة التحرير لكي تصدر تصريحا حول أمن إسرائيل التي تعتبر دولة عظمي عسكريا ومن كواليس العلاقة بين كرايسكي وعرفات أيضا أن إلتقي كرايسكي بعد ذلك بعرفات وكانت هناك مراحل فقد خلالها كرايسكي صبره‏‏ حيث كان يري أن الوقت قد حان ليعلن بكل صراحة ووضوح تخلي الفلسطينيين عن الأعمال التي تصفها إسرائيل والغرب بالإرهاب والإعتراف بإسرائيل وعدم الإستمرار في التحايل‏‏ مثل أن يقوم معاون عرفات ورجله للإتصالات مع كرايسكي عصام السرطاوي بإلقاء كلمة يعلن فيها الإعتراف بإسرائيل وعدم مناقضته من قبل عرفات‏ بحيث يبدو الأمر وكأنه إعتراف من الزعيم‏‏ ولكنه يمكن عند اللزوم التنصل من هذا الإعتراف وهذه كانت طبيعة ياسر عرفات‏ ومع ذلك فإن كرايسكي لم يندم لاحقا لكونه لعب دور كاسح الجليد لعرفات في العالم الغربي‏‏ وبرغم أن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك مناحم بيجين وصف كرايسكي باليهودي الخائن . وكان كرايسكي علي قناعة بأن التوصل إلي حل مع الفلسطينيين هو لمصلحة إسرائيل‏‏ وبأن الإرهاب لا يجابه بإرهاب مماثل‏‏ وكانت نظريته إذا لم يتحدث المرء مع الإرهابيين أى‏ المقاومة المسلحة‏ فإن هذا الإرهاب لا يمكن إيقافه وكان كرايسكي يصاب بخيبة أمل شديدة كلما قام الفلسطينيون بأعمال عنف ولذا ففي عام 1983م وقبل أن يترك كرايسكي منصبه كمستشار للنمسا وصلت العلاقة بين كرايسكي وعرفات إلي أدني مستوي لها عندما أطلق متطرفون فلسطينيون النار علي عصام السرطاوي رجل الإتصالات من قبل منظمة التحرير الفلسطينية مع كرايسكي وأردوه قتيلا في البرتغال علي هامش إجتماع زعماء الإشتراكية الدولية آنذاك‏‏ حينئذ قال كرايسكي‏‏ لم يعد هناك أي أمل‏‏ وأعلن عن قطع صداقته مع عرفات‏ وبعدها حاول عرفات إسترضاء العطف وإظهار التعاطف والثقة والإخلاص وقد إعتبر المراقبون أن إغتيال السرطاوي علي يد المتطرفين الفلسطينيين في البرتغال خلال مؤتمر الإشتراكية الدولية كان تحذيرا لعرفات‏‏ أما التحذير الذي تلقاه كرايسكي فتمثل في حادث إغتيال هاسينز نيتل مستشار بلدية فيينا ورئيس جمعية الصداقة النمساوية الإسرائيلية وبرغم خيبات الأمل الكثيرة‏‏ ظل كرايسكي مصرا علي أنه كان علي صواب بجهوده الرامية إلي إخراج الثوري ياسر عرفات زعيم المقاومة الفلسطينية‏‏ أو كما يراه البعض في الغرب زعيما للإرهابيين من عزلته‏ فكرايسكي هو السياسي المحنك الذي رسم دور دولة النمسا في ولادة عملية السلام منذ بدايته‏‏ لأنه هو الذي أمسك بيد عرفات وفتح له الأبواب المغلقة وهو ما كان يهدف إليه الرئيس المصرى أنور السادات‏ منذ البداية ومن أجل كل ذلك‏‏ فإن ياسر عرفات بدا عليه التأثر الشديد خلال مشاركته في تشييع جنازة المستشار النمساوي الراحل برونو كرايسكي في عام ‏1990م بالعاصمة النمساوية فيينا‏‏ كما تأثر الكثير من الساسة النمساويين برحيل عرفات وفي مقدمتهم أحد تلامذة كرايسكي الإشتراكي رئيس الجمهورية هاينز فيشر‏ .‏

وبلا شك أن إتجاهات كرايسكي العلنية الصادقة ومواهبه الفريدة الناجحة قد شكلت تيارا معاديا له في قارة أوروبا تقوده إسرائيل التي لم ترض أن ترى كرايسكي معارضا للصهيونية التي تنشد فيها حلا لقضية الشعب اليهودي أو أن يكون ذلك الوقت صديقا للعرب ومقربا من الرئيسين المصريين جمال عبد الناصر وأنور السادات والزعيم الليبي معمر القذافي والزعيم الفلسطيني ياسرعرفات الذين وصفتهم الأوساط الغربية بالإرهابيين آنذاك ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن أسرته نفسها كانت في شبه عداوة معه فوالدته التي قررت ترك النمسا والهجرة مع اليهود الآخرين إلى إسرائيل رفضت أن تمد يدها لإبنها كرايسكي الذي هم بمصافحتها لحظة الوداع في المطار كما أن أخاه الذي هاجر هو الآخر إلى إسرائيل راح يتهم كرايسكي بعدم نيله أي إهتمام من أخيه ومن المعروف أن كرايسكي كانت له مواقف عاصفة مع رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير التي قال عنها إنه السياسي اليهودي الوحيد في أوروبا الذي لم تستطع إبتزازه ولن ننسى الحادثة الشهيرة التي وقعت في عام 1975م في مقر منظمة الدول المصدرة للبترول والمعروفة بإسم الأوبك في العاصمة فيينا التي أسفرت عن إختطاف وزراء البترول في الدول الأعضاء بالمنظمة وأخذهم كرهائن وتم قتل بعضهم تلك العملية التي قام بها الإرهابي الدولي المعروف كارلوس والتي أشار إليها كرايسكي في مذكراته إلى أنه لم تكن لهذه العملية من دواعي سياسية وأنه حاول جاهدا من خلال التفاوض منع سفك الدماء وعدم تعريض الأرواح للخطر ومنع تكرار حدوث مثل هذه الاعمال الإرهابية في النمسا مستقبلا رغم الإنتقاد الذي وجه له وذكر أن الدول الأعضاء في المنظمة أرادت نقل مقرها من فيينا إلا أنه حاول جاهدا منع مثل هذا التوجه ونجح في ذلك بالفعل ولم يتم نقل المقر الرئيسي للمنظمة من العاصمة النمساوية فيينا ولا يزال المقر بها حتي الآن .


ويذكر كرايسكي حول الخلاف ما بينه وبين إسرائيل كما جاء في مذكراته أيضا وبالنص إن إسرائيل تدعي بأن أصل اليهود كلهم في العالم هو من فلسطين وأنا لا أرى هناك خطأ أكبر من ذلك وإذا ما أردنا أن نحكم على المسألة اليهودية بعيدا عن مفهوم الصهيونية هنا سنكون قد وصلنا الى سر قيام دولة إسرائيل وإن أكثرية الشعب اليهودي في إسرائيل منذ قيامها هم من العرب وأن المؤسسين لدولة إسرائيل أصبحوا أقلية فيها بحكم أيديولوجيتهم الصهيونية وإذا ما عرفنا حجم التناقضات الموجودة بين الطرفين أدركنا حجم المشاكل المركزية داخل إسرائيل أضف إلى ذلك أن الصهاينة يرون أن كل يهودي في العالم يجب أن يكون ولاؤه لإسرائيل فقط وعدا ذلك يعتبروه إنتهازية وهذا الأمر يشكل بالنسبة لي أكبر الأخطاء وهو مرفوض بالأساس لأن ليس هناك ما يمكن المساومة عليه أكثر من الإخلاص للوطن حيث لا أفهم كيف يجوز لي أن أقبل بأن تكون أرض الأجداد أقل حبا وإعتزازا من مدينة تقع على ساحل قريب من أطراف الصحراء كما إني لا أفهم كيف يجوز لهؤلاء الذين عاش أجدادهم قرونا طويلة في النمسا وقدموا خدماتهم لها وقت السلم وضحوا بأرواحهم في سبيلها وقت الحرب لا يحق لهم أن يكونوا نمساويين حقيقيين والظاهر أن إسرائيل لم تستفد من عبرة محرقة اليهود في أوروبا التي سخرتها فقط من أجل خدمة مصالحها السياسية ومن هنا أقول إن الفارق ما بيني وبين هؤلاء في إسرائيل هو أني أرفض الصهيونية وأرى أن إسرائيل هي إحدى أكبر الدول الخاضعة للأحزاب الكهنوتية في العالم وعلى هذا الأساس أجد أن الإنسان الحضاري المثقف أينما يكون في العالم يجب أن تكون علاقته باليهود تماما مثل علاقته بأي إنسان آخر في العالم وإذا نظرنا بتمعن إلى كلمة اللاسامية نجد أنها كلمة مغلوطة وكان يجب أن يكون مكانها العداء لليهودية لأن كلمة السامية تعطي الإنطباع بأنها بالنسبة لليهود قضية عنصرية إذا ما عرفنا أن هناك العديد من الشعوب السامية وعليه أرفض أن أكون سطحيا وعرضة للوقوع في الخطأ الذي وقع فيه الآخرون وإن علينا أن نضع أمام أعيننا الفارق ما بين الدافع الديني من جهة وما بين الدافع الصهيوني القومي أو لنقل العنصري من جهة اخرى وأنا أرفض المفهوم الذي تنشره إسرائيل وهو أنه يجب علي كل من هو من أصل يهودي أن يكون صهيونيا وأن يضع إخلاصه لخدمة إسرائيل مؤيدا بالبراهين وعلى ضوء هذا المنظور أجد أني قد وضعت نفسي في تناقض مع إسرائيل والإسرائيليين ومن هنا أقول إن إسرائيل دولة مصطنعة أقيمت على نحو غاية في المكر والمهارة وعلى أساس الإدعاء بنظرية إبادة اليهود في محرقة الهولوكوست .وستبقي إسرائيل تعاني من محنة الإعتراف بوجودها وأن مثل هذا الإعتراف سيواجه الكثير من المصاعب والخلاصة نعم إن إسرائيل لم تستفد من عبرة المحرقة كما يقول كرايسكي وكان معه الحق في إنتقاد إسرائيل حول قضية ولاء اليهود في العالم لإسرائيل فقط وهو لم يستسلم لإ بتزاز إسرائيل على الإطلاق بينما نرى كيف إستسلم الكثير من حكام أوروبا وحكام العرب لهذا الإبتزاز وهذا هو مبدأ كرايسكي بالذات وما كان يعلنه تماما فمن منا ينسى ما فعلته إسرائيل مع وزير خارجية النمسا الأسبق والسكرتير العام للأمم المتحدة الأسبق ورئيس الدولة الأسبق كورت فالدهايم الذي راحت تلاحقه وتتهمه بالعمل مع النازية ولكنها فشلت أن تعمل الشئ نفسه مع كرايسكي الذي كان بالأصل ضحية للنازية وبمناسبة ذكر إسرائيل هنا نقول إن كرايسكي الذي ينحدر من عائلة يهودية نشأ وهو شاب على أفكار الأممية الدولية وراح يعمل بنشاط مع جناح منظمة الشباب للحزب الإشتراكي الديموقراطي في فيينا وكثيرا ما ألقي القبض عليه حاملا علم النمسا الأحمر أثناء المظاهرات التي كان يقودها وجلب أمام المحاكم النمساوية وهو إبن السادسة عشر من العمر عام 1927م ومن هنا ندرك لماذا كان كرايسكي معارضا لتوجهات إسرائيل المعادية للعرب تماما كما كان شأن الزعيم والرئيس الفرنسي الراحل الكبير شارل ديجول عندما شنت إسرائيل الحرب على العرب في صباح يوم 5 يونيو عام 1967م .


وكان من مفارقات القدر أن يرحل كرايسكي عن الدنيا يوم 29 يوليو عام 1990م وأن ينهار الإتحاد السوفيتي وأن تسقط الشيوعية في العالم كله في نفس الوقت تقريبا ولم يسعف القدر كرايسكي لكي يرى ما حل بمدينته الجميلة فيينا خلال العقدين الماضيين التي شهدت موجات متزايدة من هجرة الذين كانوا داخل سجن الشيوعية الكبير بعد الإنهيار مما تسبب في فوضي عارمة حينما إندفعت الحشود التي عانت البطالة والفقر والقهر لعقود طويلة في دول أوروبا الشرقية مثل المجر ورومانيا وبلغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا التي إنقسمت إلي دولتين هما دولة التشيك ودولة سلوفاكيا ويوغوسلافيا التي إنقسمت إلي عدة دول هي صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود إلى دول غرب أوروبا عن طريق العاصمة النمساوية فيينا التي أصبحت سوقا مفتوحة ومما سهل مجئ كل هؤلاء على نحو أوسع فتح الحدود عند دخول أكثر هذه الدول الى الإتحاد الأوروبي وعموما ستبقي ذكرى كرايسكي سواء مولده أو وفاته حاضرة في الأذهان فحقا كان هذا الرجل أسطورة وجدير بأن يقف له الشعب النمساوي داخل النمسا وكثيرون آخرون في خارجها إجلالا وإحتراما لذكراه لكونه كان من الحكام الوطنيين المخلصين الصادقين الذين كانوا يمتلكون كاريزما الزعامة عن جدارة وإستحقاق والذين خدموا شعوبهم بكل ما كان لديهم من عزيمة وإصرار وتركوا الذكرى والأثر الطيب الذي يخلدهم الى أبد الآبدين وقد إحتفلت النمسا في يوم 22 يناير عام 2011م بمرور 100 عام علي مولد هذا الرجل العظيم وفي يوم 29 يوليو عام 2015م تم إحياء ذكرى وفاته الخامسة والعشرين وأقامت في هاتين المناسبتين مجالس البلديات في عموم النمسا والبرلمان النمساوي العديد من الإحتفالات والفعاليات كما تم إفتتاح معارض للصور الفوتوغرافية والكاريكاتورية عنه وأخرجت عنه المسرحيات المتعددة منها النبي الأحمر والماركسي المشبع بالأحاسيس والنمساوي الحقيقي أوالمستشار ذو الرؤيا البعيدة والعالمية أو ملك الشمس أو كرايسكي العملاق او مترنيخ النمسا اليوم أو الشيخ كرايسكي .
 
 
الصور :
برونو كرايسكي والشيخ زايد بن سلطان وياسر عرفات منصور حسن في لقاء مع كرايسكي برونو كرايسكي