الجمعة, 29 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

لديَّ حلم

لديَّ حلم
عدد : 09-2013
بقلم الأديب/عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com

في مارس عام 1963، وفي مسيرة حاشدة فوق أرصفة واشنطن الباردة، قاد مارتن لوثر كنج آلاف المهمشين من الأمريكيين السود نحو الكرامة، ووقف وسط خارطة من السواد ليبشر أتباعه بغد مختلف. وهناك، وقف الرجل متحديا بياض جلاديه ليعلن أن لا فضل لأبيض على أسود في أمريكا إلا بالحلم. وفي نبرة متواضعة كحلمه، وقف القس الأسود ليعلن عن خارطة طريق نحو أمريكا مختلفة تحت ضغط من أتباعه الذين كانوا ينادونه من قريب: "أعلن عن حلمك أيها الأسود."

ووسط عاصفة من التصفيق الحاد، وقف كنج كدرة تاج وسط ربع مليون ناشط حقوقي ليعلن كفاحه السلمي ضد التمييز العنصري والديني والطبقي في بلاده. وحول منصته، وقفت الحشود مأخوذة بحلو بيانه ونبل مقصده. وعلى إثرها، تحول القس لوثر إلى أيقونة مقدسة يعلقها المضطهدون في شتى أنحاء القهر حول رقابهم المحنية تحت نير الكراهية.

كان المجتمع الأمريكي قبل لوثر أشبه بمصر بعد ربيعها الزائف. كان العنف سيد الموقف والكراهية عنوان المرحلة. وكان عرابو التمييز قادة الرأي في بلاد نسيت أصالتها، وتآمرت على نخوتها، وكانوا يملأون النوادي صخبا ملوثين بحججهم الفارغة منطق الأشياء حتى استكان السود في شرانقهم ليواروا سوأة ألوانهم ويلعنوا جيناتهم الفاضحة كل صباح ومساء، حتى جاء لوثر.

صاح لوثر فيمن حوله من الأتباع أن من يتخذون الكراهية وطنا، لا يستحقون المواطنة، ومن يرفعون السلاح في وجوه ذويهم حتما سيسقطون وتسقط قضاياهم ولو بعد حين. وتعرض الرجل وأتباعه لحملة بشعة من التشويه والتضييق والمطاردة والتنكيل، لكن عقارب التاريخ كعادتها لم تعد للوراء رغم تآمر شياطين الإنس والجن البيض على مسار الأحداث. أما دعوة لوثر، فقد أصاخ لها التاريخ جيدا وتفتحت أمامها تضاريس أمريكا المتهالكة، ورددتها قمم البلاد وقيعانها، ليخرج عبيد أمريكا من سجن التاريخ إلى رحابة الجغرافيا أفواجا، ويتقاسموا اللقمة والمصير مع حامل السوط الأبيض.

صحيح أن عمر لوثر لم يمتد به ليشهد لوحة حلمه الزيتية تتحقق، وصحيح أنه لم يعش ليرى الأصابع المتعطشة للنبذ تلتف حول معاصم المناوئين، وصحيح أن طرق أمريكا لم تعرف طرقا يتناغم فيها وقع أحذية أصحاب الأديان المتنافرين، وصحيح أن الرجل اغتيل بعد خمسة أعوام فقط من وقفته الشهيرة تلك، إلا أنه استطاع أن ينتصر على جيمس راي الذي لا يذكره إلا الأكاديميون والمؤرخون باللعنة والمقت. وسقطت حنجرة لوثر برصاصة غادرة ليسقط الحلم الأسود بمجتمع فاضل حر. وعلى قبر لوثر، وقفت كلمات الرجل منتصرة في حلق المقبرة لتقول: "وأخيرا أصبحت حرا، أصبحت حرا، شكرا يا إلهي أنك حررتني، وأخيرا أصبحت حرا."

لم يكن حلم لوثر مجرد حفنة من القوانين أو جملة من الدساتير التي تحكم العلاقة بين المواطنين الأمريكيين، لكنه كان يتجاوز جمود الأحرف وطوباويتها إلى بؤس الواقع ومرارته. كان الرجل يحلم بدستور عاطفي يملأ قلوب الأمريكيين بالمحبة والشفقة والمشاعر الراقية. ولم تكن الحرية التي يسعي إليها مجرد صك بالبراءة من القيد، بل مشاعر راقية بالاستقلالية والانتماء والحب. لكن الأغبياء لم يقفوا على حلم لوثر، واستبدلوا كلماته الحية بعبارات جوفاء في دساتيرهم البلهاء.

يبدو أن قدر اللوثريين في كل بقاع العالم أن يتوقفوا عن الحلم أو يراهنوا بحناجرهم. وقدر على المصلحين في كل عصر أن يتعرضوا لرصاصات "راي" الغادرة ليدفعوا فاتورة أحلام لم يعيشوها ولوحات لم يكملوا نقشها. قدر على المصلحين أن يُجرَّدوا من مثاليتهم وأن تجرد نصوصهم من نبضاتها لينتصر الرصاص والقانون الأجوف على نبل القيم النبيلة وسمو المشاعر. لكن المجتمعات لا تصلح بصلاح دساتير لا تطبق على أرض باضت فيها طيور الكراهية وفرخت أيها اللوثر الحكيم وإن اجتمع لصياغتها جهابذة القانون. فقانون التعايش محبة ودستور التوافق تواد وتراحم بين أبناء نسيجه العريض. أما الجالسون في غرف التاريخ المغلقة، فلن يصنعوا حلما يليق يوما بأمريكا ولو اجتمعوا له. دمت حرا أيها اللوثر النبيل.