الخميس, 28 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

الحرية ليست هناك

الحرية ليست هناك
عدد : 07-2013
بقلم الأديب/ عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com

لم أنتم يوما لميدان ولم أصطف أبدا وراء حشد، وكنت أرى نفسي صغيرا كلما وجدتني رقما مجهولا في طابور حاجة لا أرى فيه أمامي غير مسبحة ممتدة من الرؤوس المنبعجة تسد عني رحابة الأفق. كنت أرى الانتماء للفكرة وأد غير مشروع للحرية، وكنت أتعامل مع الأفكار كما تتعامل لجان الرقابة الغذائية مع السلع، فما صلح منها استبقيته، وما انتهت صلاحيته ألقيته في سلة المهملات دون أسف على ما أنفقته من ليال طوال. حتى جاءت فتنة التحرير، فنكست رأسي وضربت بأبجديات التحرر الذهني عرض الحائط.
ظللت أبحث طوال عمري عن أطلال حرية أستفيء بظلها وأرعى في مروجها وأقف درويشا على أعتابها، حتى انفتح أمامي ميدان التحرير على مصراعيه فجأة، فرأيت عشاق الحرية من كل لون يصدحون بتراتيل الثورة وينشدون أناشيدها، فخلعت نعلي قبل أن أدخل ميدانها الفسيح تاركا ورائي تراثا من الاستقلالية غير قليل. وقنعت بتقبيل العلم وتقبيل الرؤوس المتناثرة هناك وكأنني عائذ بأستار الحرية من وثنية التبعية التي ورثها أهلونا كابرا عن كابر.
كنت أردد أشعار المبتهلين هناك وكأنها فرائد نظم مقدس، وأستمع إلى منظري الثورة بعين شاخصة وقلب مخلوع، وكأنني في محراب حقيقة لا تقبل النقض أو المداولة. لطالما حججت ببصري إلى ميادين الثورة، وتمنيت لو كنت صارية من صواريها أو عتبة من أعتابها. وشيئا فشيئا، تخليت عني، وصرت خزان وقود مليء بكافة أنواع المتفجرات الذهنية، قادرا على هزيمة أي متبار في ميادين اللجاج، لأنني كنت الأكثر مداومة على حضور تعاويذ الميدان والطواف حول أركانه وكنت كمتيم ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار تنسكا لحرية ولدت بعد ثمانية عشر يوما من الشهامة على يد ثوار لم نشك يوما بطهرهم.
ومرت الأيام، وتواترت الأحداث بسرعة مريبة، وتغيرت الوجوه في الميدان كثيرا فلم أعد أعرف من الحشد أكثرهم، لكن عبق الميدان ظل في مخيلتي فرقدا لا تطاله أصوات الباعة الجائلين ولا تحيط به مكبرات الصوت أو الحناجر المحتقنة هنا أو هناك. كنت أعيش في خدر رائع بين الرائحين والغادين إلى ميادين التحرير كعاشق يشتم رائحة المحبوبة في ثياب من يلقونها من المارة.
وفجأة، انتبهت على أصوات أخرى قادمة من ميدان بعيد، فسألت من حولي من الطائفين حول تماثيل الشمع هناك، وعلمت أن ميدانا آخر للحرية قد افتتح منذ خلع قريب. فسألتهم عن سر تخاذلهم عنه وتمسك أقدامهم بتراب ميدانهم الأول، فأجابوني أن عبادة الطواطم تقتضي ذبح بعض الأفكار والمبادئ على النصب، وأنهم قرروا الانتماء لأحذيتهم المقدسة والبقاء في مربع العائذين من القبح هناك.
وبعد انتهائي من تأدية مراسم الولاء لميدان التحرير، مررت مرور الكرام على ميدان رابعة، فرأيت نفرا ممن كانوا معنا، وعرفتهم بسيماهم، وسمعتهم يرددون الأناشيد ذاتها، ويصدحون بالهتاف ذاته، فعدت سريعا إلى ميدان التحرير، وناديت الواقفين بين الحجيج هناك أن الواقفين في الميدان الآخر أقوام أمثالكم يزأرون كما تزأرون، ويهتفون كما تهتفون، وينشدون الحرية التي خرجتم لأجلها أول مرة، فناداني صوت من بعيد أن هؤلاء قوم مُبعدون، لأنهم تنكروا لآلهة التحرير وانفضوا عنها إلى ميادين أكثر وجاهة وتآمروا على الميدان وأهله وصافحوا أئمة الفسق الذين أفسدوا في مصر وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون.
عندها قررت التكفير عن ظن السوء بالتحرير وأهله، وخلعت نعلي وبدأت الطواف حول مبادئه القديمة، لكنني لمحت في إحدى الزوايا رأسا أنكرته، وبعد الجولة الأولى من السعي رأيت وجوها أخرى. عندها تسمرت قدماي في خشبات الميدان، وصهلت بأعلى صوتي مناديا رفاق الحرية ليروا بأعينهم كيف تحول الميدان إلى مبغي، وكيف أنهم متورطون حتى النخاع في عبادة مزيفة، لأنهم يحجون إلى نفس القبلة التي يلوي لها المفسدون أعناقهم، فناداني أحدهم أن الثورة تحتاج إلى بعض التحالفات كي تنجح، وأنه على الباغي تدور المليونيات. فسألته دهشا: "على من تثور الميادين في بلاد ما وراء الثورات إذن؟" لكنه آثر الصمت وأكمل الطواف.
عندها خلعت ثياب التمرد وألقيتها خلف صارية التحرير، ولبست ثوبي الذي كدت أنساه وراء المنصة التي خرجت على صواريها هناك. وعدت محزونا إلى رأسي القديمة لأمارس شعائر الحرية والليبرالية في فسحة من الوعي. وكفرت بالميادين كافة لأنها تشتري رؤوسنا ببعض التعاويذ لتتاجر في جماجمنا النخرة بعد تحولها إلى فوهات عظمية خاوية.